تأملات بين عاصفتين .


تأملات بين عاصفتين .


يبقى الزمن يسير بقدرة الله ، كما هي أحداثه أيضا مقدرة بحكمة حكيم ، وعلم عليم ، ويبقى التأريخ شاهد عصر على أحداث الزمن في كل مكان وزمان .

بالأمس القريب تذكرت عمري عندما لم يكتمل عقدا واحدا ، حيث فاضت ذاكرتي ببعض مخزونها ، وجنح بي الخيال في صفحات ماضي الزمن وحاضره مقارنا ومتأملا ، فأخذت الذاكرة تلوح بشريطها الإرشيفي ببعض حوادث عاصفة الصحراء أثناء غزو العراق للكويت ١٩٩٠ ميلادي ، وكيف كانت حالة الناس في معركة برية وبحرية وجوية ؟ ! ، وكيف تطوع الشعب لخدمة وطنه في مجالات خاصة منظمة من جهات الاختصاص ! ، وكيف كان الالتحام والوئام والانسجام بين الشعب وقيادته ، وبين الشعب وقرابته ! ، التي تعد مضرب مثل في الرجولة والوفاء والشهامة والكرامة ، بل مازلت أتذكر ماكان يصنعه شاعر الوطن : خلف بن هذال العتيبي (شفاه الله ) ، في المشاعر والشعور بحماسه الإلقائي ، عندما كنت أشاهده من خلف شاشات التلفزة الناقلة لقصائده بشخصيته الفذة ، وحنجرته الحادة نبرة وصوتا ، والتي تشبه حدة عينيه سطرا وشجاعة ، مما يجعل نبضات قلوب مستمعيه تتسارع ؛ ليتوزع دم الحماس والتأثير في جميع أجزاء الجسد في ثواني معدودة حماسا لانظير له ، وقد وفق برصاص كلماته مع فعله البطولي ، في إبراز حق الوطن على أهله عندما يتعرض الوطن وأهل الوطن لأي خطر من قريب أو بعيد ، إذ إن الشعر سلاح ، وتأثيره على طرفي المعركة محسوس ، ويبدو لي من تخليد الزمن لبعض شعر شاعر الوطن الحماسي ، أن وراء تلك الحنجرة مشاعر وطنية صادقة جعلت ضميره يفيض شعرا رصاصي المعنى ، مضبوط العيار ، مدفعي الإلقاء .

لحظات ذكرى لاتنسى ، عندما رأيت قوات التحالف وهي تسير في الطرقات والشوارع في محافظة حفر الباطن ، متجهة نحو جبهة القتال ، بل ومخيماتهم التي لازالت عقوم ترابها مشاهدة في صحراء قريبة من محافظة حفر الباطن في كل اتجاهاتها ، بل كنت أتذكر ماكانوا يهدونه لنا من بعض اللعب والهدايا المناسبة لمرحلة الطفولة آنذاك ! ، عجيب أمر الذاكرة عندما لاتنسى بعض أحداثها ، وإن كان النسيان في بعض الأحيان نعمة ، وفي أحايين أخرى نقمة ، إذ كيف أنسى صافرات الإنذار بدلالاتها الثلاث ، عندما كنا نتصنم أمام الشاشة مترقبين كلمة زوال الخطر ، ليذيع المذيع الحدث ونتائجه ، فنحمد الله على سلامة الجميع ، بل مازلت أتذكر المشايخ فرسان المنابر عندما كانوا يعطون الحدث حقه من الخطابة ، مثبتين الناس ، داعين للالتحام والوئام ، مما جعل المستمعين مشدوهين متشوقين ، يترقبون أحداث الواقع من خطيب حاذق ذي لسن ، بل إنني أتذكر مقبرة الشهداء في حفر الباطن ، والتي تحمل هذا الاسم حتى اليوم ، وقد دفن فيها بعضا ممن مات في عاصفة الصحراء في ذلك الزمان ، فسميت المقبرة باسمهم ، عليهم رحمة الله ، ورزقهم أجر الشهادة ، بل كيف أنسى المتحدث الرسمي للقوات المشتركة النقيب سابقا ، واللواء متقاعدا لاحقا : أحمد الربيعان ( متعه الله بالصحة والعافية ) ، وحديثه المتزن بلغتي لسانه ( العربية ، الانجليزية ) و الذي كان يحمل البشائر بذكاء عجيب ، خاصة وأول بيان له عندما أذاع خبر إسقاط طائرتين عراقيتين من قبل طيار سعودي واحد ! ، فكان الناس يتناقلون أخبار البطولة في عاصفة الصحراء مروية في المجالس الشعبية بحديث له لذاذة يشحن الهمم ، ويقوي العزايم ، حيث كانت المجالس الشعبية حينها تتسم بالرسمية الزائدة ، فيتجاذب الحضور بعض الأحداث اليومية محللين لها بأسلوب فيه صفاء ونقاء وقرب نظر ! ، وكيف كانت ألسنتهم داعية بزوال الغمة ! ، فقد كانت وسائل الأخبار في ذاك الزمن محصورة محدودة ، قبل أن ينفتح الفضاء اليوم بشاشاته في كل اتجاه .

إن حديث الذكرى يؤرق أحيانا ويؤنس أحيانا أخرى ، لكن التأريخ الذي يعاصره الإنسان في حياته يبقى له مع حواسه قصة أخرى ، يعيش معها حنينا خاصا ولحظات تأمل ، يستنطق معها دروسا يعيش بها بقية زمنه المكتوب له في هذه الحياة ، وقد وفق الأمير : خالد بن سلطان بن عبدالعزيز بتوثيق أحداث عاصفة الصحراء من بدايتها حتى نهايتها بكتابه : ( مقاتل من الصحراء ) بأسلوب يناسب العسكريين والمدنيين على حد سواء ، مدعما بالصور والوثائق المؤرشفة لأحداث ذلك الزمان وأخباره .
واليوم نجد أن التاريخ يعيد نفسه ، فبعد أن كانت الجبهة شمالية ، وشمالية شرقية ، بقدرة القادر تكون اليوم جبهة جنوبية ، وجنوبية غربية ،

فهاهي عاصفة الحزم تدك الخونة ومن يعاونهم من رخيصي الذمم ، وناقضي العهود بقوات تحالفية منظمة بقيادة مملكة الحزم والوفاء والجوار ، وهاهي تؤدي دورها الحازم المشرف مع جار خائن للجوار والعهد ( المخلوع ) ، تدعمه ميليشيات حوثية رافضية إجرامية ، تنفث السم من ألسنتها ، قبل سلوكها ، علما بأن دور اليمن بقيادة المخلوع : علي عبدالله صالح في عاصفة الصحراء كان خائنا مهزوزا ! لو رجعنا لذلك التأريخ بقراءة واعية ، مما يجعلنا ندرك أن صاحب الخيانة المجرب في المواقف الصعبة في زمن ما ، لن يتركها في مواقف أخرى إن حصلت له فرصة ، فالسلوكيات جينات وقناعات ، ومن خان مرة واحدة لاتتعجب أن يردفها بخيانة أخرى وأخرى ، إذ الأفعى التي أفرغت سمها في زمن ومكان ما ، ستجمع سمها لتنفثه في مكان ما مع الزمن ، لكن التفاؤل مطلب ، والحذر واجب ، والتأريخ مدرسة لمن يقرأ بتأمل ، واليوم والفضل لله وحده ، هاهي البشائر تتوالى من ذاك الحد الجنوبي ، بأفعال بطولية يقوم بها الأبطال الأفذاذ بتوفيق من الله وسداد ، وهاهو التاريخ يسجل لعاصفة الحزم بطولاتها ، ويوثق أحداثها بعزة وكرامة ، فمتحدثها الرسمي : هو العميد ركن : أحمد العسيري ، والذي يعد رمزا وطنيا يفيض ذكاء وتسلحا بالعلم والمعرفة ، فلسانه يلفظ عدة لغات بإتقان ، وعيناه تلتقط الإشارات قبل العبارات ، بهدوء لغة جسد ، وقوة حدس ، وسرعة بديهة ، وبين المتحدثين الرسميين في كلا العاصفتين أعيش تفاؤلا باسميهما ( أحمد الربيعان / أحمد العسيري ) فكما كانت عاصفة الصحراء نهايتها حميدة ، فبإذن الله عاصفة الحزم نهايتها حميدة سديدة ، ثم هاهي المساجد والجوامع والجامعات والمدارس ، وكتاب الشعر والنثر وطلاب العلم يتناولون عاصفة الحزم بالتأييد والتوثيق والتفاؤلية بالنصر القريب ، إذ إن الظلمة لايدومون أبدا ، ليقرأ الناس تأريخهم ، ويكونوا مضرب مثل لبني البشر في كل زمان ومكان عظة وعبرة ، علما بأن سنة الصراع بين الحق والباطل في هذه الحياة أمر كتبه الله وأراده كونا وقدرا وشرعا ، وهو ماض إلى قيام الساعة ، وكلي أمل ، ودعاء ، ورجاء وحسن ظن بالله أن تنتهي عاصفة الحزم بما يسر الجميع في عاجل زمن ، فالحياة كما هي أمل ، هي أيضا عمل ، والأمل بالله وحده ، ثم بجهود الجنود الأبطال المرابطين في تلك البقاع من قوات التحالف أجمع ، نصرهم الله ، وردهم سالمين غانمين فرحين ، ليسجل التأريخ سيرهم وبطولاتهم وأحداثهم وأسماءهم ، فكلنا ترقب لتوثيق أحداث هذه العاصفة وأخبارها ، ودروسها ، وعبرها بشكل رسمي ، بتأليف كتابي دقيق ، يكون إرشيفا لها ، حتى تروى للأجيال اللاحقة ، فالتأريخ سجل زمن ، وتوثيق أحداث ، واستنطاق عبر ، ومعرفة خبر ، ومن لايهتم بالتاريخ ، فصلاحية طعم حياته منتهية ، وبداية الحياة ونهايتها تأريخ ، وبينهما أرشفة تستوجب التأمل . بقلم : علي بن سعد الفريدي .


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *