عقلية سياسية غيبها موت .


عقلية سياسية غيبها موت .


علي بن سعد الفريدي
علي بن سعد الفريدي
   
كاتب صحفي - مهتم باللسانيات وآدابها

إقرأ المزيد
خطوات إلى الصحراء
عمار يادار .
عيد في زمن كورونا
رحلة إلى لقاح
زمان ينجب أبطالا .
التفاصيل

رنة رسالة هاتف مزعجة ، استقبلتها على تردد ، حدقت بعيني جيدا ، فإذ فحواها موت يغيب عقلية سياسة وطنية عالمية ، خبر موت سعود الفيصل – رحمه الله – وزير الخارجية السعودي لعقود أربع . انتقل السياسي البارع الألمعي ، مهندس الفكرة والدبلوماسية إلى جوار من خلقه ، فكم اهتزت وتهتز النفوس الحساسة المرهفة ذات المشاعر الصادقة من خبر موت العظماء والحكماء والعلماء والعباقرة والناجحين في كل مجال مشروع ! . إن الفيصل سعود عمود سياسة عالمي ، دفع عن العالم شرورا كانت ستحل بهم بتوفيق الله وقدرته أولا ، ثم برؤيته الثاقبة وبصيرته النيرة ، كما خدم بلاده وأمته والعالم أجمع بفكر حكيم سليم سديد رشيد ، والتأريخ أرشفة لبصمته ، لا يجحد ذلك إلا من كان في قلبه جمرة حقد وحسد . كان – رحمه الله – لسانه حكمة ، وفكرته سداد ، ولغته متنوعة ، إذ لكل مقام عنده لغة ، ولكل لغة مقام ، كيف والفيصلي سعود ؟ ! يجيد سبع لغات إنسانية ينطقها بفهم ودقة ، إذ لا أبالغ إن قلت : إنه يستطيع الحديث مع نصف سكان العالم أجمع بلا وساطة مترجم ، فاللغات التي يجيدها هي لغته الأم العربية ، إضافة إلى الانجليزية والفرنسية والألمانية والأسبانية والعبرية والإيطالية . إنه الطموح الذي يصنع المعجزات ، كما تبين لي من خلال قراءتي في بعض شخصيته وسيرته الذاتية ، أن النجاح لاتصنعه شهادات مزيفة ، ولاوثائق مزورة ، ولا تنميق كاذب للذات ، فالفيصلي الراحل يحمل شهادة البكالوريوس في الاقتصاد من جامعة أمريكية ، لكنه أستاذ الأساتذة في السياسة ، وفي اللغات ، وفي الفكر وفي التعامل ، وفي استثمار الوقت بكل ثمين ، بشهادة العدو قبل الصديق ، كما تبين لي أيضا ، أنه كان لايهتم بالمظاهر الشكلية القشورية إطلاقا ، وإنما اهتمامه على الحق والحقيقة والطريق الموصل لها بكل سلاسة وذرابة ، إضافة إلى ماوهبه الله من هدوء في شخصيته ، والهدوء في الشخصية الفاهمة ، علامة نضج ودهاء ، وحنكة ، واستطاعة لفرض رأي وفكر على المحيط ، إذ إن من سنن الله في الحياة ، كن هادئا وتحكم في الجميع ، فالفيصلي كان هذا منهجه الحياتي ، مما جعل سيرته الذاتية والعملية بصمة نجاح ، تروى للأجيال جيلا بعد جيل ، فكانت كلمات أفكاره توزن بالذهب عند ذوي الحقيقة وأرباب الحكمة والدهاء ، أما أفكاره فهي الذهب بعينه ، نضجا ونجاحا وسدادا ، كان – رحمه الله – يرى أن الوقت أثمن شيء في الحياة ، شعر به الإنسان أم لم يشعر ، فهو يرى أن كل دقيقة تمر هي لثمن ما ، فعجبا لمن يضيع دقائق زمنه بلا ثمن ! ، ولذلك قلما تجد له صورة شخصية ! ، إذ غالب صوره هي من مضمار عمله ، وفي اجتماعاته ، وحواراته ، وزياراته المجدولة له ، والتي هي من صميم مسؤولياته ، كما كان – رحمه الله – متواضعا مهيبا متسامحا جريئا شجاعا ، يقرأ الإشارة قبل العبارة ، بل هو إنسان عملي من الطراز الأول ، فقد كان قليل الجلوس على كرسي مكتبه في الوزارة بشهادة من حوله ، فهو محلق في السماء من دولة إلى أخرى ، ينقل الحكمة التي يعصرها ذهنه ، والتي أتعبت جسده وروحه ، فأمرضته بعد أن قضى معنا خمسة وسبعين ربيعا ، منافحا عن بلاده ، وعن بلاد المسلمين من سوء كل مسيء ، بوضوحه الصادق ، وأمانته القوية ، وشخصيته الفذة ، ثم استجابت روحه لقدر بارئها وخالقها ، فمات الرجل المبارك ، في شهر مبارك ، في ليلة جمعة من عشر مباركة ، وصلي عليه في أطهر بقعة مباركة ( مكة المكرمة ) ثم دفن في أرضها ، فاحتضن ثرى مكة المكرمة جسده المتألم ، في مقبرة العدل ملحودا له ، حينها أدركت أن قضيته التي كان ينافح عنها هي اسم مقبرته التي دفن فيها ( العدل ) ، فرحمة الله عليه ، وعلى جميع موتى المسلمين ، وعوضنا بموته ممن يكون خير خلف لخير سلف .


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *