تعقيم التدريب !


تعقيم التدريب !


في مخبأ الحجر الصحي جادَ علينا الفراغُ بسَخاءٍ نتيجةً للبقاء في المنازل ، وتوقف وتيرة حياتنا ؛ فتوجّهت الأنظارُ والحِيَلُ لصرْف فائضهِ بعوائدَ مُفيدة على المستوى الشخصي والعملي مستقبلاً .. اختلفت الطرقُ رغم بقاءِ وحْدانيةِ الهدف !

فأصحاب الاتجاه الكلاسيكي اختاروا عُزلة مكتباتِهم ؛ لنهْلِ المعرفة وإكمال قراءاتِهم السابقة .. وجزءٌ ليس بالقليل جرَفَهم “كوفيد 19” لمُنزلَق دوّامةٍ قُطرُها متّسِع وعُمْقها مُعْتِم ضمن دورات تدريبية ( بالبنط العريض مجانية ) تمتطي عجلةَ التقنية ؛ لتقدّم بثَاً مُباشراً بقاعاتٍ مُخصصة ، ترتكز على أركانٍ ثلاثة ؛ الأول : الجهة المنسقة أو الراعية ، والثاني : المدرب صاحب الألقاب والمسمّيات والاعتمادات الرنّانة ! والثالث : المتدرِّب .. وهو واحد من اثنين : أما نَهِم للتعلّم “دافور” ، أو مُشاكِس في مدرسة “كامو” العبثية !

ولأن البياض يقابل السواد ، والأخير سيّد الألوان ؛ تم اختياره لتعريةِ المشهَد على مسارح التدريب الهزليّة الخالية من ترابط المعنى وجدوى الهدف .. فمثل هذا الدورات تحتضنُها جهةٌ تسوّق لنفسِها من خلالها باعتبارات الشراكة المجتمعية ، وبثّ ما يُقال إنه وعْيٌ يقابلهُ حصْدٌ للساعات التدريبية للمُدرّب ، ونقاطُ قوّةٍ في سجله المِهَنِيّ .. واللحقيقة ، فلا شيء بالمجّان ؛ فالمتدرّب له شهادةٌ تدريبيةٌ يُزيّن بها الـ CV ( ملف سيرته العملية ) .

ووسط هذا التخبّط تُقدّم دوراتٌ هشّة تفتقرُ قيمتُها المعلوماتية ومهاراتُها التدريبية ؛ فتضيع الساعاتُ خلف مُدرِّب يتهرّبُ من مُناقشةِ الحُضور أو يمارس ردوداً سطحيّة تكشفُ سَوْءتهُ المعرفية ! وعلى الضفة الأخرى هناك مُتدرّب مُنشغل بلعِب “الكيرم” مع إخوتهِ الصغار ولا هَمّ لهُ إلا متى يأخذُ الشهادة بغضّ النظر عمّا يُقدّم من محتوى !

ومع مشروعية السؤال  بناءً على الاتفاق  المُبْرَم ؛ نتطلّعُ لإيجادِ لقَاحٍ يُريحُنا من مخاوفِ “كورونا” وتلوّث الاستغلال المعرفيّ تحت مسمّياتِهِ الجديدة .. وكلّ ما قيل ويُقال هنا لا يشمل  بحالٍ من الأحوال الدورات المُقدّمة من قِبَل أصحابِ الفِكر الحَيّ والرؤية الحقيقية .. لقد كشف فيروس “كورونا” عن إصابتنا الرمضانية بتخمةِ الهُبُوط التدريبيّ المُحْترِف مضافاً للهبوط الدراميّ في مسلسلات هذا العام ! فلا محتوى يُطرح ولا مُشكلة تُحلّ .. مُجرّد إهْدارٍ للوقتِ والإمكانيّات !

ومن غير المنطقي أن نغرق في سيْل التدفّق المحْموم لِما يُسمّى بدورات التطوير المجانيّة ! وحينما حاولتُ فهْم الآلية المُغرية للاصطياد من قبل مٌقدّمِيها لدرجةِ أنّ بعضنا أصبح أسماكاً تتقافزُ بحْثاً عن فُتاتِ خبْزٍ رَماهُ صيّادٌ أو عابثٌ – فوجدتُ أنّ المُغْريات التي تُوقِعُنا في فِخاخِها – ولا أبرّئُ نفسي وأنا من أولئك المتقافزين لتذوق الخبز – أوّلُها عبارةُ “شهادة مجانية” وثانيها – وهو الأكثر – مهارةُ مَحاوِرٍ تمّ تلميعها كوجْبةٍ رديئةٍ بعدسةِ مصوِّرٍ مُحترف ! للأسف تلك هي لعبة التسويق .. مُحاوِر يدّعي أنّه يجمعُ لك معرفةً عظيمةً بجلْسةٍ لن تكلّفكَ إلا ضغطة زِرٍّ وسرقةَ ساعةٍ أو ساعتينِ من عمُرك من غيرِ أنْ تشعرَ بغَبْنِ الشّراء !

وإذا وصلنا إلى ثالثِ المُغريات : “الموضوع الرنان” واللعب على الاحتياجات النفسية في وقتِ الأزمةِ أو ما بعدها .. ومن يتتبّع الدورات الحالية سيرى بنفسهِ أنّ موضوع التطوير الذاتي والتعايُش مع الأزمات في الإعلام والوعْي الإنساني ، ومستقبل الاقتصاد بعد خطاب وزير المالية … وكأنّ المدرّب يمتلكُ آلياتٍ سِحْرية لقلب الموازينِ وتوجيهِ دَفّةِ الحياة للجانب الأكثر إشراقا في هذا الكون المحجور بشرُه !!

ومع محاولةِ التغاضي عن الإسفافِ الحاصلِ من بعضِ مُدّعي التدريب ، والانحيازِ للفئةِ الأقلّ – وجدتُ أنها هي الأخرى ترضخُ تحت تشتيتِ التركيز من قبل مُتدرّبينَ لا يُراعُون مبادئ الالتزامِ الذوقية في شروط الحضور الإيجابي : من إغلاقٍ للسماعات الصوتية ، والكاميرات التسجيلية ، ناهيكَ عن مقاطعة المدرِّب بمزاحمة المداخلات ، وانتقادات العرْض ؛ مما يُضيّعُ على الكثيرين الاستفادة المأمولة !

ختاماً ، خُلقتْ الحياةُ بالتكاملِ ، وتوازنت بالاختلاف .. والنقد والمراجعة الواعية لاشك سيصبّ في مصلحةِ الجميع ؛ لذلك فإنّ شراء حقائب التدريب الجاهزة ، واستغلال المناسبات والأزمات بالمواد المسلوقة ؛ لن يصنع منك مدرباً ناجحاً يبقى أثرهُ ! فللتدريب مهارات وأدوات وشخصية متمكنة تحسن جمع المعلومات وتقديم المحتوى المفيد الراقي ، وتأكد بأنّ دائرة الوعي في اتساع يذهب الزبدُ فيه – ولو بعد حين – ويبقى ما ينفع الناس .


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *