جاهلية في خاصرة الوطن !


جاهلية في خاصرة الوطن !


بعد الانتهاء من مشاهدة أحد المقاطع الساخرة التي تعزّزُ من قيمة السرقة في ظروف معينة أضافَ عليه صديقنا الكاتب حسن شعيب تعليقاً مفتوحاً يحتملُ الكثير حين قال : “جزءٌ من الوطن تسكنُهُ جاهلية” ؛ بقيتْ تلك الكلمة تدورُ معي لأيام عن تلك الجاهلية التي تسكن الوطن ! لتطلّ “ليلى الجهني” بعينها الثاقبة التي تتخلل مسامات المجتمع ، وكلماتِها التي لا تُهادِنُ في الكشْفِ عن سوءتِنا التي نُوَاريها ؛ كاشِفةً السّتارَ عن خَللِ “الجاهليةِ” التي تسكُنُنا ؛ فإنْ ارتقيْنا في لباسِنا ومأكلِنا ومَعيشتِنا ؛ إلا أنّ جاهليةً ترتدي الخِرَقَ الباليةَ من تقاطِيع العُنصريّةِ في النسب واللونِ وحتى في تربيةِ الأبناء ، وإنْ أخذتْنا عزّةُ النفسِ عن الإقرارِ بتلكَ المُكاشَفة إلا أنها مُتجذّرة بعُمْق في دواخِلِنا !

.

وتستمرّ الجاهليةُ في التسرّب عبر سدودنا النفسيةِ مُعلنةً عن وجودِ المزيد ؛ كحقّ تقريرِ حياةِ الأبناءِ في اختيار تخصصاتِهم العلمية ! ولا أدري إنْ كنّا وحدَنا من يُؤخذُ ببَريقِ الهندسةِ والطب ؟! فلا نقبل غيرَهما وإنْ تعارضتْ معَ مُيولِ الأبناء وتضييعِ السنواتِ في تخصّصٍ بعيدٍ عما نحبّ ؛ لينتهي بتعليقِ شهادةٍ باردةٍ على جدارٍ أشدّ بُرودةً وصمْتاً !

.

ولن يكونَ المُخرجُ السعوديّ الشاب “بدر الحمود” إلا مثالاً واحداً في الخروج من شرْنقةِ رغباتِ الأهلِ واختيارِ طريقٍ جديدةٍ تنبع من الحبّ لما نريد وإن عجز البعضُ إلا أن هناكَ من أكملَ ولو بعد حين .

.

كل هذا لا يتوقف ؛ فما التخصّص إلا خطوةٌ تتبعها خطوات أخرى كرأي الأسرة في اختيار شريكِ العُمْر حسب المعايير الاجتماعية والعُرْفيةِ ؛ لتستمرّ الأرقامُ في المحاكم تفضحُ حالاتِ التزايُدِ في الانفصالِ بينَ الشباب السعوديّ ! لكنْ من يُبالي ؛ فالأسرةُ وحدَها هي الأجدرُ في تقريرِ مبدأ التوافُقِ ؛ وكله قسمة ونصيب !!

.

ولا غرابةَ لمَن تربّى على حقّ الكبيرِ في الانْفرادِ بالقرارِ ومُصادَرةِ حقّ التعْبير أو الاعتِراضِ لمنْ هُم دُونَه عُمْرياً ؛ فكانتْ أداةَ التهْميش التي قتلتْ في نفوسِ الكثيرينَ مبدأً مهماً من مبادئ التربية هو الحقّ في المناقشة والاستقلال في الفكر بقناعةٍ يتحمّلُ صاحِبَها نتائِجها ؛ مما أنتج لنا جيلاً لا يقبلُ بمبدأ الرأي الآخر ، ولا يؤمنُ بأنّ الرؤيةَ لا تقتَصِر على زاويتهِ وحدهُ ، ومن أراد أن يتأكد من ذلك المستوى الضحْل من التفكير ؛ كلّ ما عليه أنْ يجرّب قراءة الردود والتعليقات المتناثرة في وسائل التواصل الاجتماعي ! ولكن قبلها ليأخذ عصيرَ ليمونٍ مُنعِش يجنبُهُ الغَثيان !!

.

ولعل من الحكمة مجانبة الخوض في قضايا المرأة بهذا الأمر ؛ فله من الكثرة والوضوح ما يغني ! كما أن مجتمعنا الفاضل يعاني من حساسية مفرطة في كل ما يخص المرأة ؛ فما أن يُشار إليها حتى ينبعث العنتريّون الغيورون عليها وقد استعدوا للانقضاضِ بمُجرّدِ كلمةِ امرأةٍ ! فللهِ درّ بناتِ الوَطنِ ؛ كمْ يجاهِدْنَ للبقاءِ صامِداتٍ في ظلّ كلّ تلكَ الجاهليّات !!
وتتكشّفُ الجاهليةُ وتمتدّ لتغرسَ حرْبَتَها في خاصِرةِ الوَطن وإنْ كانتْ – ولله الحمد – لم تتشعّب جداً إلا أنها تتجلى في بعضِ النفوسِ المٌخضّبة بالجهْلِ ؛ فكلّ مالٍ للدولةِ حقٌّ مُشاعٌ للجميعِ من مَرافِق تُخرّب وأموالٍ تُؤْخذ بغيرِ حقّ وآثارٍ تُطمَس بعبَثِ المراهقين !

.

بناء على هذا كله لم أكتب هنا لأمارس جلد الذات أو أتحدث بلغة الاستشراف – يكفينا وجود الكثير منهم – فما الفرد إلا جزء مدمج من ثقافة مجتمعة يستقي منها ويتأثر بها , إلا أن إقرارنا بوجود تلك المظاهر واعترافنا بها هو الطريق الأمثل في علاجها والتخلص منها كخطوة أولى ، بينما تجاهلها لا يزيد الجرح إلا عمقاً ونزفاً ! فعلينا أن نواجه تلك الحقيقة الغائبة ؛ أننا لسنا مجتمعا فاضلاً دائماً إلا أننا نأملُ دوماً لأن نكون كذلك ، والأمل وحده لا يكفي دون بذل الجهد والسعي نحو تحسين تلك الصورة !
.

.

وتبقى آخر الكلمات تعلن يقينها : بأنه متى ما كان لدينا رغبة صادقة وعزيمة قوية في تغيير تلك المفاهيم وإعادة تشكيلها بالاتجاه الصحيح ؛ فإنا قادرون على تحقيقها حتى يستعيدَ الجيلُ الجديدُ رُوحَ الحياةِ المُغيّبَةِ عنْه منذ سنين !!


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *